أطراف الحرب في سورية وعليها مُجمعون على إنهاء خلافة «الدولة الإسلامية – داعش» في سورية والعراق، لكنهم مختلفون عمّن يكون الخَلَف. لم يبقَ الكثير من أحياء مدينة الموصل ليكتمل تنظيفها من الداعشيين. أما مدينة الرقة، عاصمة «الخلافة»، فيجري تطويقها من جهات أربع للزحف عليها في مستقبل قريب. غير أنّ قرب تهاوي «الخلافة» لا ينبئ بقرب ظهور الخَلَف. لماذا؟
لأنّ أطراف الحرب، ولا سيما الولايات المتحدة وروسيا وتركيا و»إسرائيل»، مختلفون عمّا يجب أن يكون عليه وضع سورية والعراق خلال الحرب وبعدها. ذلك كله يوحي بأنّ خلَف «الخلافة» لن يكون من طينتها.
الولايات المتحدة تكشف عن موقفها تدريجياً مذ اعتلى دونالد ترامب عرش رئاستها في 2017/1/20. فقد بادرت، أولاً، إلى تعزيز قواتها المرابطة في مواقع متعدّدة من شمال سورية الشرقي كانت سيطرت عليها «قوات حماية الشعب الكردي» المدعومة من واشنطن والعاملة معها ولها. قامت، ثانياً، بتعزيز قواتها بإنزال المزيد من المشاة في مناطق قريبة من مدينة الطبقة وسدّ الفرات وعلى مقربة من «قوات سورية الديمقراطية» قسد الكردية التي تهيّئُها القيادة العسكرية الأميركية لتكون رأس الحربة في الهجوم على الرقة.
روسيا أبدت استعداداً للتنسيق مع الولايات المتحدة لاقتلاع «داعش» من الرقة وغيرها من المناطق السورية المحتلة شريطةَ ان يتمّ ذلك بالتنسيق مع الحكومة السورية وبمشاركة فاعلة من جيشها. وازاء عدم تجاوب واشنطن في هذا الصدد بل قيامها بإنزال قوات قرب الطبقة لقطع الطريق على الجيش السوري الذي كان يتهيّأ أيضاً لتحرير الرقة، قامت موسكو مؤخراً بمناورة لافتة إذ نشرت قوات ومدرّعات روسية في منطقة عفرين الكردية في أقصى شمال سورية الغربي.
تركيا تبدو، ظاهراً، مكتفية بسيطرة قوات «ردع الفرات» المطعّمة بجنود أتراك على مدينة الباب شمال حلب قاطعةً بذلك الاتصال الجغرافي، على طول الحدود السورية – التركية، بين مناطق سيطرة الأكراد السوريين في شمال سورية الشرقي الحسكة وشمالها الغربي عفرين . الى ذلك، أعلنت أنقرة معارضتها استخدام قوات «قسد» الكردية للسيطرة على الطبقة، لكنها أبدت موافقة على مشاركة وحدات «الجيش الحر» الموالي لها في الهجوم على الطبقة والسيطرة عليها.
«إسرائيل» التي تشارك مباشرةً في الحرب على سورية بدعمها قوات جبهة «النصرة» بالمدفعية والطيران في الجيب الذي تسيطر عليه في الجولان منطقة القنيطرة ومداورةً بمعالجة جرحى التنظيمات الإرهابية في مستشفياتها، يهمّها إدامة الحرب لتوسيع رقعة جيب «النصرة» في الجنوب السوري بغية تأمين دور للكيان الصهيوني في المفاوضات السياسية لتقرير مستقبل سورية.
هذه الواقعات الميدانية، كيف تبتغي الأطراف المتصارعة ترجمتها الى مشروعات سياسية؟
وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أعلن ما سبق أن أشار إليه رئيسه ترامب عن عزم واشنطن إقامة «مناطق مستقرة» في سورية بموازاة سعيها الى هزيمة تنظيم «داعش». الى ذلك، تسعى واشنطن إلى منع مقاتلي «داعش» الهاربين من الموصل من التوجّه الى الرقة بدفعهم باتجاه محافظة دير الزور التي تسيطر «داعش» على قسم من عاصمتها. كما تقوم طائرات «التحالف الدولي» الأميركية والقاذفات «الإسرائيلية» بضرب مواقع الجيش السوري في البادية بين تدمر ودير الزور للحؤول دون حصول تواصل وتعاون بين سورية والعراق في وجه «داعش».
يتحصّل من حركة القوات الأميركية وتموضعها في شمال سورية وشرق العراق، كما من تصريحات المسؤولين السياسيين في واشنطن أنّ الولايات المتحدة ترمي من خلال إقامة مناطق آمنة أو «مناطق مستقرة» الى اتخاذها نقاط رسوّ ومنطلقات لبناء كيانات سياسية جديدة في شمال سورية وشرقها يستفيد منها الأكراد السوريون الساعون للانفصال عن سورية، كما السوريون والعراقيون من أهل السنّة المتحالفون مع الولايات المتحدة والمدفوعون الى إقامة كيان سياسي انفصالي على جانبي الحدود السورية العراقية. كذلك تستفيد «إسرائيل»، ومن ورائها الولايات المتحدة، من اقامة هذا الكيان الإسفين الذي يفصل سورية عن العراق وتالياً عن إيران.
تركيا تؤكد دائماً أنها لن تسمح بإقامة دويلة مستقلة للأكراد السوريين على حدودها مع سورية. واشنطن تسعى إلى إقناع حكومة أردوغان بأنّ القوات الأميركية العاملة في سورية كفيلة بدحر «داعش» كما بتعويض الأكراد السوريين مشاركتهم في معركة الرقة بإقامة منطقة حكم ذاتي لهم في الحسكة، وأنّ «المناطق الآمنة» التي ستديرها واشنطن في شمال سورية كفيلة بقطع الاتصال الجغرافي بين منطقتي الحسكة وعفرين، الأمر الذي من شأنه طمأنة أنقرة. لهذا السبب قامت أنقرة، بالتفاهم مع واشنطن، بالإيعاز الى جبهة «النصرة» والتنظيمات المتحالفة معها بفتح جبهتين ضدّ الجيش السوري في الغوطة الشرقية جوبر والقابون وفي شمال محافظة حماة بقصد إنهاكه وإضعاف قوته الردعية وحمل دمشق على صرف النظر عن التوجه لمقاتلة «داعش» في الرقة، كما لإجهاض خططها الرامية الى تحرير محافظة دير الزور من الدواعش وتفادياً لقيامها بالتواصل والتعاون مع العراق في محاربة الأعداء المشتركين. ولعلّ أنقرة وواشنطن يسرّهما تعويض «النصرة» عن جهودها آنفة الذكر بإقامة كيان انفصالي تحت وصايتها في محافظة ادلب.
روسيا تبدو ملتزمة سياسياً دعم وحدة سورية ونظامها بقيادة بشار الأسد، بالإضافة الى مشاركتها السخية والجادّة في محاربة «داعش» و»النصرة» على مدى الساحة السورية برمّتها. غير أنّ نظرتها الى مستقبل نظام سورية السياسي لا تتوافق بالضرورة مع نظرة دمشق. تبدّى هذا التباين بعد قيام موسكو بتوزيع ورقة مشروعها لدستور سوري جديد على الوفود المشاركة في مفاوضات جنيف. لكن روسيا ستبقى على الأرجح حريصة على مراعاة حساسية دمشق ومصالحها ولن تمضي في مسار سياسي يقلق حليفيها السوري والإيراني.
«إسرائيل» جادّة في جهودٍ شتى لتأجيج الحرب في سورية وعليها. ويبدو أنّ اهتمامها الأول في هذه الآونة هو الحؤول دون تزويدها أسلحة روسية او إيرانية كاسرة للتوازن مخافةَ ان تتسرّب الى حزب الله اللبناني المنخرط في مقاومتها. الى ذلك، تسعى «إسرائيل» الى إقناع إدارة ترامب بتعظيم وجودها العسكري في كلّ من سورية والعراق، من حيث هو رافعة للمخطط الصهيوني الرامي الى تقسيم الجوار العربي، ولا سيما في سورية والعراق.
ليس من شأن المعطيات آنفة الذكر والجهود الناشطة لاستثمارها أن تؤدي بالضرورة إلى نجاح مخططات أميركا وتركيا و»إسرائيل» ضدّ سورية والعراق. ذلك أنّ مناهضيها الفاعلين، خصوصاً سورية وحزب الله وإيران وروسيا، ليسوا واهني الإرادة ولا قليلي الحيلة، وأنهم بالتالي سيواجهون بقوة وتصميم المخططات المعادية لمصالحهم وسياساتهم وتطلعاتهم. وعليه، يمكن القول إنّ الحرب في سورية وعليها ستشتدّ وتطول في الحاضر والمستقبل المنظور لكون أطرافها جميعاً جادّين في العمل لتحقيق أهدافهم وأغراضهم.